. *مؤامرة جنيف وفرضية التسوية المخابراتية!*
🎯 عبدالرازق أنقابو،،،
angabo7@hotmail.com
. 10اغسطس 2024م
ما يلفت الإنتباه في الدعوة الأمريكية لطرفي النزاع والمسهلين والمراقبين للاجتماع في جنيف – بدلا عن جدة، والقول بالانطلاق من مخرجات إعلان جدة، ليدعنا للتساؤل: لماذا التغيير المكاني للمنبر لطالما وزارة الخارجية الأمريكية الداعية للاجتماع – هي نفسها، اقرت الإلتزام بتلك المخرجات؟ الإجابة علي هذا السؤال، تقودنا لأمر ما، هو المؤامرة المرسومة – بعينها، بسبب حقيقة نظرة الجهات المعنية جميعها بما فيهم أمريكا لإعلان جدة، بإعتباره إلتزام منتهي الصلاحية، وكذا بسبب تبدل الموقف الأمريكي تجاهه ونظرتها إليه – الآن، كمجرد وسيلة (علف) لإستدراج ذلك الطرف – المتعنت، المتوقع رفضه او تماطله عن الحضور! وما استجابة أمريكا امس الجمعة للإجتماع بجدة، بوفد بورتسوداني مرسل برئاسة المدعو محمد بشير أبو نمو، دون تعليقها علي صفته كمحسوب علي الحركات المسلحة، إلا دلالة علي هذا الاستدراج! هذه النظرات لإعلان جدة وافتقاره لآلية المراقبة مع طول مدة سريانه، قد صمم لينتهي بعقوبات جزائية دون توصله لحلول جذرية للأزمة السودانية، لاستخلافه بمنبر جديد – لا يقوم علي عقوبات هذه المرة، كما شهدنا وقد طالت العديد من الرموز المستهدفة، إنما يقوم علي فرض تدخل عسكري دولي وشيك، رغم أنف الإعتراض الروسي المتوقع ضده!
وكما تمت الإشارة لهذه النهاية المحتملة لمنبر جدة في تناول سابق بتاريخ ٢٥ مايو ٢٠٢٣م، في مقال – بعنوان: (إعلان جدة وتحديات الصراع في السودان: الإنتهاء بعقوبات جزائية، أم البداية بحلول جذرية)، فإن ما طرا منذ توقيع هذا الإعلان في ١١ مايو ٢٠٢٣م وحتي تاريخ الدعوة الأمريكية لمؤتمر جنيف في ٣١ يوليو ٢٠٢٤م، أكد حقيقة نهاية هذا المنبر، وأما الدعوة الأمريكية فقد جاءت نعيا له! تلك المستجدات التي طرأت وما فيها من مواقف – سالبة، تتمثل في النقاط الآتية:
أولا: عدم إمتثال طرفي الحرب وبالأخص الطرف الأول بإلتزامات إعلان جدة، مع التقصير (المتعمد) في تكوين لجنة آلية رقابة مصاحبة لمتابعة التنفيذات والخروقات!
ثانيا: عملية تعقيد المشهد من خلال إصرار الطرف الأول علي مواصلة الحرب وضربه عرض الحائط حتي بآخر هدنة اقرها مجلس الأمن رمضان الفائت، اعطي انطباعا أن موافقته علي أي مبادرة تفاوض، لا تكون إلا مجرد مناورة او هدنة للترتيب لاستئناف القتال فيما بعد!
ثالثا: تجاوز تطورات الحرب وواقعها الميداني المروع للالتزام بحماية المدنيين، والتعهد بتسهيل وصول المساعدات الإنسانية المقررة في إعلان جدة، للدرجة التي زادت بشكل مخيف، من حجم الدمار والتشريد والنزوح ومستويات القتل بين المدنيين!
رابعا: لجوء الطرف الأول لخلق تحالفات عسكرية – لا تكشف عن تدهوره وحسب، بل تؤكد مدي مضيه قدما في مخططه لزيادة إرباك المشهد، بإتيانه للمنطقة بإيران المتحالفة مع الحوثي، وإغوائه لروسيا لاستدارة ظهرها عن الطرف الثاني!
خامسا: ظهور طرف ثالث في الحرب – غير معلن، مع تنفيذ عمليات بمسيرات مجهولة المصدر!
سادسا: عملية التنصل الغير مبررة أو الفتور المتبدي في منبر جدة، من تجديد الدعوة لطرفي النزاع بمواصلة الاجتماعات!
سابعا: توقيت بروز جهات أخري (اجتماعات القاهرة المتكررة، الفيتوهات الروسية المحتملة وهذا التحرك الأمريكي – الأكثر حظوة) – لم نقل أنها تريد اختطاف منبر جدة، لكنه حلول الأوان – المخطط له، للإستفراد بملف أزمة السودان!
كل هذه المستجدات، اكدت ان منبر جدة واعلانه الغير ملزم لطرفي النزاع، قد أصبح تاريخا منتهيا – من الماضي، سواءا تم استئناف التفاوض في منبره، أو في أي منبر غيره! وبمراجعة هذه المعطيات أعلاه، نجد أن النقطة الجوهرية فيها، تكمن في حقيقة التماطل في عدم تنشيط منبر جدة لاستئناف التفاوض في أقرب أجل ممكن! ذلك – حدا للصراع، الذي ترك طاحنا محتدما وبأزمة إنسانية مأساوية، لم يشهد لها السودان مثيلا في تاريخه! هذا معناه – من حيث المؤامرة المحتملة، أن المجتمع الدولي في ذلك الترك، قد افسح المجال – لا اخلاقيا، لطرفي الحرب للاستمرار في القتل والتهحير والتدمير، أو الإفساح لأحد الطرفين بالقضاء علي خصمه، حتى اذا لم يتمكن منه علي مدار عام كامل، يتم قطع الطريق أمام الطرف الآخر (المعلوم) من استكمال سيطرته – بهكذا مبادرة، هي بالأساس مخابراتية الطابع، اكثر من كونها إنسانية أو سياسية الإتجاه (مراجعة مقال: لماذا هي الفاشر – دون غيرها)!
وإزاء كل ذلك، فإن الشعب السوداني باسره، أصيب بالدهشة من صمت المجتمع الدولي وتنصله عن القيام بمسؤولياته في وقف الحرب، وفي عدم القيام بالاستجابة الإنسانية الكافية لمخاطبة نذر المجاعة الحالة بالسودان! واجمالا، فإن هذا التنصل وما يقابلة من تماطل، ليرقي لمستوي التآمر علي الشعب السوداني ووحدة دولته! ففي خضم هذا الصمت، جاءت المبادرة الامريكية داعية لمؤتمر جنيف، في توقيت لا نستنتج منه إلا ملامح مؤامرة محتملة، بدلالات إستخباراتية، تتمثل في النقاط الآتية:
أولا: غياب الإحتجاج السعودي أو المصري او الإسرائيلي لهذا اليوم، تجاه الظهور الإيراني وايجاده لموطئ قدم بالسواحل السودانية، وكذا غياب الموقف الصارم او اللائم لحكومة بورتسودان – بهكذا خطوة، هي اختيارها الارتماء بمحور إيران، علي حساب المنطقة ككل!
ثانيا: جراءة الخطوة الروسية واستباقها بفرض وجودها بالسواحل السودانية – هي الأخري، لا يعني تبديل موقفها بين طرفي الحرب، بقدرما أنها مغروضة في خلق “حميميم” أخري، لخدمة اجنداتها الاقليمية المتمثلة في تمددها بالداخل الأفريقي، وغير ذلك!
ثالثا: الرعاية الأمريكية للمفاوضات السودانية – سواءا، نجحت في التوصل لسلام أم لم تنجح، فانها مجرد مدخل لخلق وجود أمريكي – ثالث، بذات السواحل السودانية!
رابعا: غض الطرف عن إدانة “التنظيم الإخواني” كطرف مسؤول عن إشعال الحرب ومؤجج لاستمرارها، وعدم إدانته حتي في سلسلة الجرائم الإرهابية التي ارتكب أثناء هذه الحرب، تؤكد مقصودية ابقائه، لأجل إنهاء مخططات “الفوضي الخلاقة” المرسومة للدولة السودانية، كما فعل هذا التنظيم من ذي قبل، في فصله لجنوب السودان!
الناظر لهذه التطورات من زاوية طابعها الأمني، يدرك ان حكومة بورتسودان لم تقدم عليها اعتباطا كما يتصور البعض، حتي تزيد من عزلتها الدولية، لكن في واقع الأمر، ان المسالة تعود لطبيعة حربها المعلنة ضد قوات الدعم السريع وحواضنها المجتمعية بشكل أدق! هذه الحرب مصممة لإنهاء وجود الدعم السريع من الوجود، حتي جاءت التصريحات فيها صارخة متسقة، من لاءات البرهان الرافضة للتفاوض والسلام وتوقيع اي هدنة مع الدعم السريع، الي تصريحات مساعده الفريق ياسر العطا، القائلة تارة بمواصلة القاتل ولو يموت (٤٨) مليون مواطنا، ولو تستمر الحرب لمائة (١٠٠) عاما، تارة أخري! وهنا، برغم أن التقييم الأولي لطبيعة هكذا قتال، يؤكد مدي جهوية الحرب من قوميتها – لتحولها حقيقة، لحرب اهلية ما بين أهل الهامش وكيان أهل الشمال، حيث استغل فيها الجيش بطريقة غير اخلاقية، في حملة الإعتقالات والإستهدافات علي اسس إثنية جغرافية! وهذا ما يعكس مدي شعوائية الحرب، وتجشمها دون اكثرات لنتائجها المروعة بحق العباد ووحدة البلاد! ولعل هذه اللا وطنية التي لسمها الجميع في قائد عام لجيش دولة قرر تدميرها بدءا بعاصمة بلاده، هي ما أعطت الضوء الأخضر للمخابرات الدولية لتنفيذ اجنداتها المرسومة بحق السودان!
ففي ظل هذه الأوضاع التي يعيشها السودان – بشكل إستثنائي، فان المدخل المؤات لتلك المخابرات الدولية حتي تستفرد بادارة ملف السودان، هو الدخول من باب مخاطبة الازمة الجارية فيه، تحت عباءة تدخل المجتمع الدولي! وتظل هذه الفرصة مؤاتية للتآمر علي السودان، خاصة مع إصرار الطرف الأول علي الإستمرار في الحرب، واستدراجه لوضعه أمام خيارات مؤتمر جنيف المعلن انعقاده في ١٤ اغسطس الجاري!
وبغض النظر عن الخيارات المحتمل مواجهة ذلك الطرف المتعنت في حضور إجتماع جنيف او المخطط بالعمل علي إفشاله، فان الالتزام الأمريكي بالانطلاق بما تم الإتفاق عليه في اعلان جدة، ليمثل تحديا حقيقيا لهذا الطرف، خاصة اذا تمت المطالبة باعادة مطلوبي الجنائية الدولية للسجون، والمطالبة بإلقاء القبض علي كافة مروجي الحرب من تنظيم الإخوان المسلمين! وبالاشارة لذلك الطرف الثالث الغير معلن في الحرب، فإن إمتثال ذلك الطرف الاول لهذه المطالب ومعها رفض الوساطة لتمثيل حركات الكفاح في عمليات التفاوض، ليمثل قاصمة الظهر لهذا الطرف بقيادة البرهان! وما الحديث المسرب عن تنحي البرهان عن السلطة، الا خطوة استباقية منه لتفادي ردات الفعل المحتملة عليه، لمجرد موافقة وفد التفاوض الحكومي قبول تلك المطالب!
عليه، لا نتوقع استجابة الوفد الحكومي لتلك المطالب، وهي الحقيقة التي تدركها المخابرات الدولية، حتي تضع الوفد الحكومي امام خيارين؛ إما قبول الجلوس لعقد مفاوضات توقف القتال لأجل حماية المدنيين وتأمين سلامة وصول المساعدات الإنسانية لكافة مناطق السودان دون قيد او شرط – تمهيدا، للتوصول لإتفاق سياسي ينهي الحرب، أو أن المجتمع الدولي سيضطر للتدخل تحت البند السابع لحماية المدنيين وقوافل الإغاثة الإنسانية!
وإزاء هذه الخيارات المحتملة، فإن اوجه التسوية المخابراتية المحتملة لكيفيه إنهاء الحرب الدائرة في السودان، لما يخدم الاجندات المرسومة له، لتقوم فرضيتين:
الأولي: التوافق الغير معلن بجعل السواحل السودانية ارضا مشتركة بين شركاء متشاكسين، دون حدوث اي توترات محتملة فيما بينهم!
الثانية: التوافق لحد ما، علي تمرير مشروع نشر قوات دولية باجل محدود، بمهمة ظاهرها حماية المدنيين وتأمين قوافل الإغاثة، وباطنها إعطاء الضوء الأخضر للشعب السودانى للمطالبة بعمليات تحقيق مصير او دمج بين اقاليمه الخمس المتبقية! ففي هذا الخصوص، سيكون اقليم الشمالية اول المطالبين ليس بتحقيق المصير، إنما بالانسلاخ واعلان انضمامه لمصر!
وبناءا عليه، فإن مواقف الطرف الأول من الاستجابة لمنبر جنيف، لتزداد إيجابا – بالحضور، وهو المغروض في هذه الخيارات، خاصة اذا ما شملت تدخل عسكري دولي محتمل، يجد فيه ما يخدم اجنداته الغير معلنة! لكن مع كل هذه الاحتمالات، يبقي هاجس القضاء المبرم علي الدعم السريع، هو التحدي الماثل امام هذا الطرف، باعتبار ان مشروع الدعم السريع يتبني وحدة السودان واعادة بنائه كسودان جديد، بذات الرؤية المتسقة مع دستور العام ٢٠٠٥م، التي تروق لكافة أقاليم السودان المهمش! وازاء هذا التحدي القاضي بالبقاء علي وحدة السودان، فان الطرف الأول سيكون مضطرا علي عدم حضور إجتماع جنيف، وهو يضع الآمال عراضا فيما عرض بسواحل البحر الأحمر، لاجل القضاء عسكريا علي الدعم السريع، ذلك لما يحمل وجوده من رؤي وحدوية واصلاحية، وتبني مطالب جماهيرية بحل تنظيم الإخوان وإنهاء الدولة العميقة في السودان!
ختاما: بما أن الكرة في ملعب الطرف الأول بين حضور إجتماع جنيف او التغيب عنه كلية أو العمل علي إفشاله، إلا أن الفرص جميعها مواتية مع الطرف الثاني لوضع الطرف الأول وركنه في زاوية لا يستطيع منها مفرا، بل ويضع المجتمع الدولي أمام المواجهة المحتملة مع الطرف الأول، وكذا اختبار مصداقية المجتمع الدولي – نفسه، في مخاطبة الأزمة السودانية بما يخدم مصلحة الشعب السوداني ووحدة دولته!
كل هذا الأمر تتحكم فيه اجندات المخابرات الدولية التي تكيف طبيعة الاستجابة الدولية للازمة السودانية وسعيها الجاد الآن، في تولي ملف هذا البلد ذي التطلعات الريادية والميزات الجيوساسيه الاستثنائية!
هذا المحك هو ما يكون اختبارا لمدي وطنية طرفي الحرب ومعهما كل يناصر ويؤيد! ففي هذا الخصوص ان الطرف الأول، وإن قرر حضور مؤتمر جنيف فانه لا يكون إلا بالقدر الذي يخدم اهدافه في حربه الغير متنازل عنها ضد الدعم السريع، بإفشال المؤتمر والإنتهاء به بتدخل دولي يرعي تفكيك السودان! وهكذا حضور – بهذا المعني، ليمثل الخطوة المتممة لاستكمال مؤامرة جنيف وتحقيق اجندات التآمر علي وحدة السودان!
اما في جانب الطرف الثاني وهو متمسك في الحرب المفروضة عليه بوحدة السودان – أولا، فالسؤال الذي يفرض نفسه – ههنا: هل سيضطر الدعم السريع لخوض معركة منبرية سياسية من جهة، وميدانية مصيرية من جهة اخري، حتي يحافظ علي وحدة السودان؟