تقارير

فريق بحثي هولندي يستعين بـ”تخطيط كهربية الدماغ داخل الجمجمة” لمعرفة مناطق استقبال الألم في الخلايا العصبية الدماغية بقلم / بثينة صلاح

 

كثيرًا ما نقابل أشخاصًا في حياتنا اليومية يتمتعون بقدرة هائلة على الشعور بآلام الآخرين والتعاطف معهم إلى درجة تجعلنا نتساءل عن المحركات الأساسية لتلك المشاعر التي تجعلهم يتعاطفون مع أشخاص ربما كانوا غرباء عنهم.

ولسنوات طويلة، اعتقد الباحثون أن شعور المرء بآلام الآخرين هو نوع من الذكاء العاطفي، وأنه مهارة يتمتع بها البعض ويفتقر إليها كثيرون.

لكن دراسة حديثة نشرتها دورية “إي لايف” (eLife) وأجراها باحثون من معهد “نيذرلاندز” للأعصاب في هولندا، انتهت إلى أن “التعاطف مع آلام الآخرين ليس إحساسًا نفسيًّا، بل شعور حقيقي مركزه الفص الجزيري الموجود في الدماغ”.

كهربية الدماغ

كان الباحثون في الماضي يعتمدون على صور الرنين المغناطيسي للكشف عن مناطق الدماغ النشطة عند رؤية شخص آخر يتعرض للألم، ولكن يعيب هذه الطريقة أنها كانت تقيس تغيُّر ضغط الدم في مناطق الدماغ دون أن تستطيع قياس نشاط الأعصاب بشكل مباشر.

لذا استخدم الباحثون في الدراسة الجديدة “تخطيط كهربية الدماغ داخل الجمجمة“، وهو اختبار يُستخدم في تشخيص الصرع والعديد من الاضطرابات العصبية الأخرى، ويقيس النشاط الكهربائي في الدماغ باستخدام أقراص معدنية صغيرة (أقطاب كهربائية) متصلة بفروة الرأس.

استهدف الباحثون تحديد مناطق استقبال الألم في الخلايا العصبية الدماغية، وأدخلوا أقطابًا كهربائيةً إلى الدماغ لقياس نشاطه وطريقة معالجته للبيانات بصورة مباشرة؛ إذ تتواصل خلايا الدماغ عبر النبضات الكهربائية وتكون نشطةً طوال الوقت، حتى في أثناء النوم، ويظهر هذا النشاط على هيئة خطوط متموجة في تسجيل مخطط كهربية الدماغ.

الفص الجزيري

ضمت عينة البحث 7 من المصابين بالصرع (3 من الذكور و4 من الإناث) بمتوسط عمر يزيد أو يقل عن 34.3 عامًا بنحو تسع سنوات، واستعان الباحثون أيضًا بمجموعة ضابطة ضمت 93 متطوعًا (54 من الإناث و39 من الذكور) بمتوسط عمر بلغ أقل أو أكثر من 34.3 عامًا بتسع سنوات؛ إذ شاركت المجموعة الضابطة من خلال مشاهدة مقطع فيديو تظهر فيه امرأة تتعرض لألم شديد عبر الإنترنت.

واكتشف الباحثون وجود ارتباط وثيق بين تزايُد النشاط الكهربائي للخلايا العصبية الموجودة في “الفص الجزيري” وتعاطُف الشخص مع آلام الآخرين؛ إذ يؤدي “الفص الجزيري” دورًا بارزًا في العديد من الوظائف المرتبطة بتوليد المشاعر، ما يجعل الشخص يشعر بآلام الآخرين ويتعاطف معهم، سواء كان هذا الشخص مصابًا بالصرع أم لا.

ضعف العينة

ينفي كريستيان كيزيرز -أستاذ علم الدماغ والإدراك بجامعة أمستردام، والمشارك في الدراسة- أن يكون عدد عينة البحث قليلًا، مضيفًا في تصريحات لـ”للعلم” أن “طريقة اختيار عينة البحث تحتاج إلى صبر طويل من قِبل الباحثين؛ إذ يجب إدخال أقطاب كهربائية إلى الدماغ، ثم قياس نشاطه وطريقة معالجته للبيانات مباشرةً لمعرفة مناطق استقبال الألم في الخلايا العصبية”.

يقول “كيزيرز”: لا يمكننا -عادةً- قياس نشاط الدماغ إلا بشكل غير مباشر عن طريق قياس زيادة تدفق الدم في أجزاء معينة من الدماغ عندما نشعر بالألم أو نرى آلام الآخرين، ولقياس نشاط الدماغ بشكل مباشر، نحتاج إلى إدخال أقطاب كهربائية في الدماغ، وهذه هي العقبة الرئيسية.

كريستيان كيزيرز أستاذ علم الدماغ والإدراك بجامعة أمستردام

ويضيف: لحسن الحظ، فإن بعض المرضى طيبون للغاية، ويتقبلون فكرة زرع الجراحين لأقطاب كهربائية داخل أدمغتهم لتحديد مصدر حدوث نوبات الصرع، وفي أحيان كثيرة يحتاج المرضى إلى البقاء فترةً قد تصل إلى أسبوع من أجل انتظار حدوث نوبة مرضية من الصرع وتسجيل نشاط أدمغتهم، لذلك علينا أن نتحلى بالصبر، وننتظر المرضى الذين يتطوعون، وبعد ذلك يكون لدينا يومان حدًّا أقصى لإجراء التجارب، نحن ممتنون جدًّا لهؤلاء المرضى الذين منحونا أوقاتهم في فترات مرهقة للغاية من حياتهم.

تشفير المشاعر

توضح الدراسة أن “نشاط تخطيط كهربائية الدماغ في الفص الجزيري يشفر شدة مشاعر الآخرين عند الإحساس بالألم، وأن النشاط العصبي في الفص الجزيري يدخل ضمن نطاق واسع من الترددات، يتضمن نطاقات تردد موجات ثيتا التقليدية (وهي موجات تتكون غالبًا في أثناء النوم وفي حالات التأمل، ويبلغ ترددها من 3 إلى 8 هرتز)، وموجات بيتا، إضافةً إلى موجات جاما ذات الترددات الأعلى التي تتراوح بين 30 و100 هرتز وترتبط بمستويات عالية من التركيز والأداء المعرفي”.

يقول “كيزيرز”: يتلقى الفص الجزيري بيانات من الجسم والحواس ويدفعنا إلى الإحساس بالمشاعر، ومنها الألم الذي يتعرض له الجسم بالتناسب مع شدة الفعل المؤدي إليه، ويؤدي إلى تنشيط الخلايا العصبية في الفص الجزيري، والمثير للاهتمام أن النشاط العصبي في الفص الجزيري يزداد، حتى لو كان مستوى الألم المحسوس معتدلًا.

وعن مدى دقة نتائج الدراسة يقول “كيزيرز”: نحن واثقون تمامًا بأن الفص الجزيري يحتوي بالفعل على خلايا عصبية تشفر ألم الآخرين دون أن تكون هناك فروق ذات دلالة إحصائية بين الذكور والإناث في مدى الإحساس بتلك الآلام.

علاقات اجتماعية ضعيفة

يقول “كيزيرز”: هناك تبايُن كبير في مقدار استجابة الأشخاص لآلام الآخرين، وبالتالي فإننا كأشخاص نستطيع التحكم في هذا المقدار، إما لكوننا أقل تعاطفًا، أو لأننا نحاول ألا نكون متعاطفين بصورة كبيرة في لحظة معينة حيث نحاول أن نكون أقل حماسًا في التفاعل مع آلام الآخرين أو أن نتجنب آلامهم.

ويضيف: الأشخاص الذين تكون استجابتهم لآلام الآخرين دون المستوى أو منعدمة يكونون أكثر عدوانيةً وأقل فائدة؛ فعلى صعيد العلاقات الاجتماعية نجد أن الشخص غير المتعاطف مع آلام الآخرين لا يحظى سوى بمجموعة قليلة من الأصدقاء، وعلى الصعيد المهني، فإن الأطباء الأقل تعاطُفًا مع مرضاهم يحققون نتائج غير جيدة في علاجهم؛ لأنهم أقل تحفيزًا لمرضاهم عاطفيًّا.

التعاطف مع الآخرين

تتفق تلك النتائج مع نتائج دراسة سابقة أجراها باحثون في “المعهد الهولندي للعلوم العصبية”، وانتهت إلى أن الفئران يشعر بعضها تجاه بعضٍ بـ”التعاطف”، مشيرةً إلى أن “منطقة القشرة الحزامية الأمامية الموجودة في الدماغ تنشط حين ينظر الفأر إلى فأر آخر يتألم”.

وأوضحت الدراسة التي نشرتها دورية “كارنت بيولوجي” أن “منطقة القشرة الحزامية الأمامية تنشط أيضًا عند البشر حين يشاهدون إنسانًا يُعذب أو يتألم من جرَّاء مرضٍ أو ظرفٍ ما”، فحين يتألم شخصٌ ما -أو فأر ما- أمامنا، تستجيب تلك المنطقة وتنشط على نحوٍ غير مفهوم جيدًا على المستوى الخلوي.

كما أثبتت دراسة أمريكية نشرتها دورية “بلوس وان” أن الفص الجزيري يؤدي دورًا أساسيًّا في التعاطف مع الآخرين، واستخدم الباحثون في تلك الدراسة تصوير الرنين المغناطيسي الوظيفي على عينة مكونة من 32 شخصًا انقسمت إلى فريقين، الأول مكون من 16 شخصًا يمارسون التأمل مدةً طويلة والآخر مكون من 16 شخصًا آخرين تدربوا على التأمل حديثًا قبل إجراء الاختبار.

وفي أثناء الاختبار، قاس الباحثون تدفق الدم في المخ لكلا الفريقين عند سماع صوت امرأة تستغيث، مشيرين إلى أن “نشاط الفص الجزيري ازداد عندما أحس المشاركون في التجربة بمشاعر تعاطُف مع صوت المرأة”.

علاج الألم

من جهته، يؤكد “تركي أبو عليط” -الأستاذ المساعد بعلم الأعصاب الإدراكي، واستشاري تأهيل الأعصاب بجامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل السعودية- أن “نتائج الدراسة ليست مهمة فقط في مجال الألم، ولكنها تمثل أيضًا إسهامًا مهمًّا في علم الأعصاب فيما يتعلق بدراسة التعاطف مع الآخرين”.

يقول “أبو عليط” في تصريحات لـ”للعلم”: من خلال هذه الدراسة، يمكننا الاستدلال على أن الإحساس والتعاطف مع ما يشعر به الآخرون من آلام ليس إحساسًا نفسيًّا، وإنما هو عباره عن شعور حقيقي له أساس بالدماغ، كما أن الفص الجزيري من المناطق المهمة في الدماغ التي يمكن استهدافها لعلاج الألم مستقبلًا.

التنشئة الاجتماعية

من جهته، يرى سعيد المصري -أستاذ علم الاجتماع في كلية الآداب بجامعة القاهرة- أن “ربط الجوانب الطبية بالجوانب الاجتماعية مهم في فهم السلوك الإنساني في حالات الصحة والمرض والألم والمعاناة، وأنه مدخل مهم في فهم علاقتنا بأجسادنا ومشاعرنا نحو ما يصيبنا من آلام”.

لكن “المصري” يؤكد في الوقت ذاته أن “الدراسة تكرس للحتمية البيولوجية للسلوك الإنساني، ما يكرس لفكرة صعوبة اكتساب مهارات التعاطف، وهذه نقطة ضعف أساسية في الدراسة ولا أرى فائدةً من تطبيقها”.

يقول “المصري” في تصريحات لـ”للعلم”: الدراسة تحاول إثبات وجود دلائل بيولوجية على مشاعر التعاطف، وأن الشخص القادر على التعاطف لديه استعداد بيولوجي قبل أن يكون استعدادًا اجتماعيًّا وثقافيًّا نحو التعاطف مع آلام الآخرين، لكنني أرى أن التنشئة الاجتماعية تؤدي دورًا مهمًّا في تعزيز مهارات التعاطف مع آلام الآخرين أو عدم الاكتراث بهم.

ويتابع: من المهارات المهمة التي يتعلمها الطفل منذ نعومة أظافره فهم المشاعر والتعامل الجيد مع مشاعر الآخرين ومساعدتهم، خاصةً لمَن يعانون من الشيخوخة أو المرض أو الإعاقة، وعدم التسرُّع في الحكم على الآخرين، والتسامح مع اختلافهم، والقدرة على العطاء، وفهم الفرق بين الخصوصية والأنانية، ويكتسب الشخص كل هذه المهارات عبر التنشئة الاجتماعية الجيدة التي تحول بينه وبين التمركز حول الذات وتبلُّد المشاعر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى