
د/ حذيفة ابونوبة يكتب
خطاب تجاوز العاصفة حين يضع الرئيس دقلو ملامح السودان الجديد
في خطابه أعاد الرئيس محمد حمدان دقلو تثبيت الحقيقة التي ظلت كامنة خلف الضجيج، حقيقة أن السودان يقف الآن على حافة إعادة التأسيس، وأن ما نعيشه لم يكن لحظة عابرة إنما منعطفاً تاريخياً يعيد كتابة مستقبل الدولة نفسها، الخطاب في عمقه الهادئ قدم رؤية تتجاوز حدود اللحظة الملتهبة، رؤية تنظر إلى ما بعد الدمار وإلى وطن يتهيأ لإعادة اكتشاف روحه رغم فظاعة الحرب.
وقد وضع القائد الحرب في إطارها الصحيح فهي ليست مجرد صراع على السلطة كما يريد البعض اختزالها بل عملية تفكيك لآخر حصون الدولة العميقة، وكشف لنظام ظل يتحكم في البلاد بعقلية التنظيم العقائدي لأكثر من ثلاثة عقود، الخطاب أوضح أن السودان الآن أمام تحول تاريخي يفتح الباب لأول مرة لفرصة واقعية لإعادة هندسة الحكم على أساس الشراكة والتنوع بعيداً عن مركزية الخرطوم وعن وصاية العصابة.
ولعل أهم ما في الخطاب أنه التقط نبض الوعي الشعبي الجديد فقد بات واضحاً أن هذا الشعب لم يعد يقبل بالخداع ولا بالشعارات القديمة التي أُنهك بها لعقود، التجربة التي مر بها السودانيون جعلتهم قادرين على الفرز من يقاتل لأجل حماية وطن مفتوح للجميع، ومن يقاتل لاستعادة حقبة ظلامية سقطت ولن تعود، وهذا الوعي الجديد هو رأس مال اللحظة، وهو ما جعل الخطاب يتجاوز مجرد الرد على الخصوم نحو مخاطبة ضمير وطن يبحث عن يقين.
كما حمل الخطاب روح المسؤولية الأخلاقية قبل أن يكون خطاباً سياسياً أو عسكرياً تحدث الرئيس بوضوح عن واجب حماية المدنيين، ليس باعتباره شعاراً للاستهلاك، بل باعتباره الأساس الذي تُبنى عليه شرعية أي مشروع وطني، في كلماته ظهر إدراك عميق بأن مستقبل السودان لا يمكن أن يولد من قلب العنف وحده بل من صيانة كرامة الإنسان بوصفها المبدأ الأول للدولة القادمة.
وفي ثنايا حديثه وضع الرئيس النخبة التقليدية أمام مرآة التاريخ تلك النخبة التي تعاملت مع الدولة كغنيمة، ومع الشعب كجمهور جاهز للاستغلال، دون أن تنتج مشروعاً أو رؤية، الخطاب لم يهاجمها مباشرة لكنه قدم نقداً صامتاً أشد وقعاً من الكلمات لأن الرسالة وصلت بوضوح، السودان الجديد يتقدم، والعقل القديم ينحسر، ومن لم يفهم روح العصر سيتجاوزه الزمن.
وما يميز الخطاب أنه قدم رؤية للسلام انطلاقاً من موقع القوة، لا من موقع الانكسار، السلام الذي تحدث عنه الرئيس ليس هدنة هشة ولا صفقة مؤقتة، بل مسار يعالج جذور الأزمة ويؤسس لعقد اجتماعي جديد يمنع إعادة إنتاج الحرب، هذا الفهم هو ما يجعل ملامح المرحلة القادمة مختلفة لأن السلام حين يُولد من القوة يصبح سلاماً قابلاً للاستمرار.
ومن بين الرسائل العميقة التي حملها الخطاب، كانت الإشارة الواضحة إلى ضرورة إعادة تعريف الجيش والدولة، فالدولة الحديثة لا تُبنى على الولاء التنظيمي، بل على المؤسسات، والجيش الوطني لا يُدار بعقيدة جماعة، بل بعقيدة وطن ، هذه الفكرة وحدها كافية لتدل على حجم التحول الذي يجري الآن وعلى مدى إدراك الرئيس لتعقيدات المستقبل.
كما بدا واضحاً أن السودان الجديد لن يُولد من قلب العاصمة وحدها، بل من الهامش الذي أصبح اليوم ليس جغرافيا فحسب، بل مشروعاً ومصدر شرعية ورؤية، لقد جاءت الإشارة إلى الهامش كبوصلة للمستقبل، في شكل تأكيد على أن ميزان القوة السياسي والاجتماعي تغير، وأن السودان لم يعد يحتمل حكم المركز المغلق.
وفي خلفية الخطاب تبرز دعوة ضمنية لبناء سردية وطنية جديدة، سردية تحرر الهوية من الاستغلال السياسي، وتعيد الاعتبار للتنوع، وتمنح معنى جديداً للانتماء يقوم على المواطنة والحقوق المتساوية، هذه السردية ضرورة وجودية لسودان يريد أن يخرج من دائرة الانقسام.
وبين هذه الخطوط كلها كان الرئيس اليوم يتحدث كمن يرى أبعد من حدود اللحظة، تحدث وهو يدرك أن السودان يقف على مشارف زمن جديد، زمن لن يكون فيه القرار محتكراً ولا الدولة مختطفة، زمن تتنفس فيه البلاد كلها من الهامش إلى قلب العاصمة، وتبني فيه مؤسساتها بروح المشاركة والثقة، لا بروح الخوف أو الوصاية.
هكذا بدا الخطاب وثيقة وعي وتثبيت قراءة جديدة للمستقبل، وإعلان بأن السودان الذي يولد الآن لن يكون امتداداً لعهود الخراب، بل لبلاد صلبة ومسؤولة تسير نحو العالم بثقة تصنعها تضحيات شعبها وإرادة أبنائها.

