
✍️كاربينو يكتب…
🔥كتابة على حافة التاريخ حذيفة أبونوبة وصياغة السلطة من الأسفل🔥
هناك لحظات في التاريخ لا تُقاس بالأيام أو السنوات إنما بالفراغ الذي تخلقه غياب السلطة وبالقدرة التي يجدها الإنسان لإعادة صياغة العالم حوله ، في مثل هذه اللحظات يصبح الفعل المدني ليس ممارسة عملية بل تجربة وجودية تؤسس لعلاقة جديدة بين الإنسان والمجتمع، بين القوة والشرعية، بين الفوضى والنظام، إن التاريخ الذي يُكتب على حافة الانهيار يفرض على الفاعل أن يكون أكثر من متلقي للأحداث بينما يطلب منه أن يتحول إلى صانع للمعنى، وأن يختبر إمكانات المجتمع في لحظة يتوقف فيها الزمن عن العمل وفق قواعده التقليدية.
في هذا الفراغ يبرز الدكتور حذيفة أبونوبة كواحد من هؤلاء القلائل الذين لم يرضوا بأن تكون الأزمة شاهدة على الانكسار فقط بل اختار أن تكون نقطة انطلاق لصياغة نماذج جديدة للسلطة تبدأ من الناس ولا تنتهي إلا عندهم، وتعيد بناء الشرعية على الأرض قبل أن تُعلن في المراسيم والمكاتب العليا، هنا يصبح التأسيس المدني ممارسة فلسفية وسياسية في آن واحد مع إعادة اكتشاف الإنسان في مركز القرار وتحويل القدرة الجماعية إلى فعل ملموس، يثبت أن المجتمع قادر على أن يكون منتجاً لسلطته لا متلقي لها.
ومن هذا المنطلق تصبح تجربة الدكتور حذيفة أبونوبة أكثر من مجرد إدارة للأزمة، إنها قراءة متأنية للتاريخ أثناء تشكله ومحاولة لإعادة هندسة العلاقة بين السلطة والمجتمع، بين الفعل الفردي والقدرة الجماعية، بين الطموح الممكن والواقع المعقد، إنها تجربة تعيد طرح سؤال أساسي ما معنى السلطة حين تكون جدلية؟ ، وما معنى السياسة حين تصبح أداة لبناء الإنسان قبل بناء الدولة؟
في قلب اللحظة السودانية المربكة حيث تتنازع الأصوات وتتناسل الرؤى وتضطرب بوصلات الإدراك، يبرز أبونوبة بوصفه أحد أكثر الوجوه قدرة على ملء الفراغ الذي خلفته الدولة حين تهاوت مؤسساتها في الحرب ، حضوره لم يكن صدفة ولا ابن ظرف منفلت، بل هو امتداد لمسار طويل من العمل المدني الذي وجد في الحرب امتحانه الأكبر وأفقه الأرحب، وفي لحظة بدأ فيها المجتمع مُهدداً بالتشظي، استطاع الرجل أن يعيد للمدنيين قدرتهم على الاجتماع لا بوصفه وسيطاً فحسب بل بوصفه ذهنًا مُنظماً لطاقاتهم، وعقلاً قادراً على توليد الفكرة التي تجعل الاجتماع ممكناً رغم التمزق.
كان دوره وآخرين في وضع اللبنات الأولى للإدارات المدنية لحظة مفصلية في تاريخ السودان الحديث، لأنها المرة الأولى التي تُبنى فيها مؤسسات حكم محلية مستقلة عن مركز ظل يحتكر السلطة منذ فجر الاستقلال، لم يكن الأمر إدارة خدمات أو تنظيم يوميات الحياة في مناطق سيطرة الدع م السر ي ع، بل كان تمريناً عميقاً على ولادة نظام جديد ينتمي للناس ويستمد شرعيته من حاجاتهم لا من رغبات النخب المركزية، لقد كان تأسيس هذه الإدارات إعلاناً غير مكتوب بأن المجتمع قادر على إعادة ترتيب نفسه حين تتخلى عنه الدولة، وبأن مستقبل الحكم لن يعود إلى صيغته القديمة مهما طال زمن الحرب.
أدار حذيفة لقاءات ممتدة مع المجتمع المدني، ومع الإدارات الأهلية التي تشكل عمق البنية الاجتماعية السودانية، مستعيداً صلتها بدورها التاريخي كشبكة حافظة للتوازن حين تضيع الدولة، في تلك اللقاءات لم يكن الرجل خبيراً يُملِي أو قائداً يتصدر المشهد، بل كان ميسراً لذكاء الجماعة، يدفعها لتكتشف قدرتها على ابتكار حلولها وتجاوز خلافاتها، تلك اللقاءات كانت أعمق من ظاهرها، كانت اختباراً لإمكان بناء توافق أهلي من داخل المجتمع نفسه، لا بقرارات فوقية ولا بمفاوضات نخبوية منعزلة عن الناس، لقد قدم أبو نوبة نموذجاً نادراً في صناعة الثقة داخل مجتمع أنهكته الحرب والشكوك المتراكمة، جمع بين المتخاصمين، وأعاد صوغ العلاقة بين المجموعات المحلية، وخلق منظومة تواصل تُبنى على الاستماع الحقيقي والاعتراف المتبادل، هذه الثقة لم تكن شكلاً من أشكال الاسترضاء، بل كانت جزءً من رؤية ترى أن الإنسان هو نقطة البدء، وأن أي مشروع إداري يفقد مبرره إذا لم يُصنع من حاجات الناس اليومية.
وفي خلفية كل خطوة كانت ملامح رؤيته للدولة المقبلة تتبلور بوضوح، دولة لا تُدار من برج مركزي واحد، إنما تُدار من جسد اجتماعي متعدد، تُعاد فيه هندسة السلطة بحيث تصبح المجتمعات وحدات إنتاج سياسي، لا وحدات انتظار،كان الرجل يرى الدولة القادمة ككيان متدرج، يبدأ من القرى، البوادي، الفرقان، المدن و من الإدارات المحلية، من المجالس الصغيرة التي يقول الناس فيها ما يريدون، لا من مكاتب مغلقة يقرر فيها الآخرون ما يجب أن يحدث لهم.
ومع اتساع التجربة تمدد أثره ليشكل تحولاً فكرياً لا يقل أهمية عن التحولات الإدارية، فقد فرض على الجميع سؤالاً جديداً ما معنى السلطة حين تغيب الدولة؟ وهل يمكن أن تخرج بنية حكم حقيقية من تحت ضغط الحرب لا من فوق استقرار مزيف؟ هذه الأسئلة، التي كانت تُعد خيالاً فكرياً قبل الحرب، أصبحت بفعل تجربته أسئلة عملية تُناقش على الأرض وتُختبر في كل يوم.
ولعل أكثر ما يمنح مساره قيمته هو أنه لم يُبنى على عاطفة ولا على ادعاء بطولة، بل على إرادة تأسيس في لحظة لا تحتمل التأسيس، وفي زمن تراجع فيه كثيرون إلى الظلال، ظل الرجل يتقدم بخطوات محسوبة، لا يرفع صوته، ولا يدخل صراعاً بلا فكرة، ولا يطلب شرعية من أحد سوى الناس الذين يخدمهم، هذا الثبات هو ما جعل أثره يتجاوز مجالات عمله المباشر، ويصبح جزءً من سردية أكبر تفتح الباب أمام إعادة تعريف السياسة ذاتها باعتبارها فعل تأسيس وتخلق، لا مجرد إدارة لأزمة متجددة.
إن التأمل في تجربته ليس دفاعاً عن شخصه بل قراءة للتاريخ وهو يتشكل أمامنا، إنها دعوة لاستنطاق التجربة والانحياز لمن اجتهدوا وصنعوا لبنة في جدار المواجهة المدنية، بعيداً عن الادعاء أو الرغبة في الضوء، فهي تجربة تعيد طرح السؤال الأساسي كيف يمكن أن تُبنى السلطة حين تكون جدلية؟ وكيف يمكن أن تُمارس السياسة حين تصبح أداة لبناء الإنسان قبل الدولة؟
بهذا المعنى يظل د. حذيفة أبونوبة جزءً من المشهد الجديد الذي يولد الآن بصمت وبطء، مشهد يُعلمنا أن السلطة ليست هبة، بل صناعة يومية، وأن الدولة ليست مبنى يرفرف عليه علم، بل شبكة علاقات يصنعها الناس حين يقررون ألا يتركوا مصيرهم للفراغ، وفي هذا القرار وُلدت تجربته، وفي هذا القرار أيضاً ستظل قيمتها.



