حرب السودان. التي وزع القدر مواجعها ودموعها على الجميع ( وحكاية بقرة قريبنا البقاري)
د. جودات الشريف حامد

بسم الله الرحمن الرحيم
حرب السودان. التي وزع القدر مواجعها ودموعها على الجميع
( وحكاية بقرة قريبنا البقاري)
د. جودات الشريف حامد
باحث بالمركز الأفريقي للديمقراطية و التنمية
يُروى في أحد السرديات المحكية في بادية البقارة أن لأحدهم فقط بقرةِِ واحدة رغم غِنى وثراء عشيرته الأقربين- -فقرر أن يُودعها أحد أقاربه لترعى مع أبقاره وتكفيه جهد أن يرعاها بنفسه و هى واحدة, فقبل قريبه الطلب- و في أحد الأيام جاءهم زائراً لتفقد حال بقرته و كعادة أهل البادية يتناولون وجبة العشاء بعد صلاة المغرب مباشرة لينام الكبار منهم باكراً -ففي أثناء ما كانو يتناولون العشاء سمع المتحلقون حول صحون وجبة العشاء صوت(جعيراََ — “خوار أو جؤار بقرة”) تجاه مرقد الأبقار فهب الجميع تاركين العشاء إلا صاحبنا-صاحب البقرة الواحدة لم يكلف نفسه الذهاب مع الناس-بل إكتفي بعبارة تمثل جذراً للعقلية (الفلنقاوية و النخبوية) من ذاك الزمان-قال كمن لا يعني له الأمر شيئاً (سِيَاد البقر الكتير في جعير)- ظناً منه أن بقرته الواحدة في مأمن عن خطر (خشم المرفعين) الذي داهم “المراح” وعندما تفقد الناس الخسائر الناتجة عن هجمة (المرفعين) على المراح وجدوا أن الضحية كانت هى بقرة صاحبنا الذي تركوه في باحة (الضرا) يستمتع بعشاءه-دون أن يكلف نفسه عناء جبر الخاطر للذهاب مع الناس إلي مرقد الأبقار التي هاجمها (المرفعين).
أستهلُ مقالى هذا- بهذه المحكية لأقول أنه ,ولطالماً دارت حروب السودان في أطرافه البعيدة. كانت نخب الخرطوم ومدن حواضن نخبها، لا تعرف عن مآسي تلك الحروب التي دارت في أطراف السودان بكل كوارثها و مآسيها و آلامها و دموعها وفقدان الأنفس فيها إلا ما تراه عبر شاشات الأخبار وهي ترتشف شاي(المغارب) – وهي تتابع نبأ قصف الطيران الحربي لمدينة أو قرية أو بادية ما, أو سماع خبر أن مدفعية الجيش الثقيلة قد أوقعت خسائر فادحة في صفوف المتمردين- من غير أن يكلفوا أنفسهم عناء التفكير و هم يتابعون بعين عنصرية باردة هذا الجيش وهو يقصف المدنيين و تهدر مدافعه لتفتك بأرواحهم البريئة. بل كانوا في أعماقهم، مستمتعين و منتشين بتلك المشاهد، وهم يدركون تمام الإدراك أن ما يفعله الجيش إنما هو توزيع للعقاب والعذاب والآلام والأحزان والتلاعب بأرواح المواطنين اضحايا و وأد أحلام شعوب الهامش العريض.
لكن هذه المرة، الوضع قد إختلف- فجغرافية الحرب قد إتسعت لتشمل قصور و صالونات هذه النخب المتحجرة المشاعر الإنسانية, لقد شاءت حسابات القدر أن يذوق كل السودانيين مرارة هذه الحرب و أن ينالوا نصيباً من كوارثها و مآسيها و قسطاً من آلامها ودموعها وفقدان أعزائهم فيها,ولأن هذه الحرب ما تزال مستمرة، فمن يظن أن بعده عن دائرة القتال و مرمى النيران سيحميه منها فهو واهم, ومن يظن أن إنسحاب قوات- الدعم- السريع من سنجة والدندر والفاو والجزيرة سيضعه في مأمن على المدى المنظور، فهو واهم, ومن يظن أن دخول الجيش ومليشياته إلى شرق النيل والخرطوم سيعيده إلى بيته ليواصل حياته كما لو أن شيئًا لم يحدث، فهو في وهم قاتل.
ومن يظن أنه يمكن أن يعود و يجلس في بيته آمناً مطمئناً، يتلذذ بمتابعة أخبار الموقف العملياتي للجيش وهو يرسل مقاتلاته الحربية لغليان دماء الأطفال وشواء أجساد النساء و بقر بطون الشيوخ في دارفور وكردفان والنيل الأزرق، فهو واهم، ولا يعرف عن هذه الحرب إلا إسمها و توهُم أمنياته و تخيلاته الرغائبية عنها.
إنها حرب 15 ابريل الإستثنائية التي كُتبت على الجميع، شاءوا أم أبوا. فلا أحد، مهما توهم سيكون بمنأى عن نيرانها، ولا مدينة، مهما بَعدُت، ستبقى بعيدة عن لعنة مخاطرها – إن هذه الحرب التي ظنت النخب المركزية أنها ستظل قاصرة على هوامش السودان كما كان يحدث طوال حقب الحروب السابقة فقد أخطأت التقدير وجانبت التدبير وأساءت التفكير، لقد جاءت الحرب هذه المرة لتطرق أبوابهم، وتقتحم أسوار قصورهم العالية، وتضعهم أمام مرآة الحقيقة التي مفادها- لا أمن بلا عدالة-ولا استقرار بلا مساواة-ولا وطن بلا أن يحمل الجميع أوزار الجرائم التي صمتوا عنها طويلاً- فعلى السودانيين أن يدركوا أن مستقبلهم لن يكون بالإصطفاف خلف هذا الجيش العنصري البغيض أو تلك المليشيات الإرهابية المتحالفة معه، ولا بالرهان على أوهام العودة إلى ما قبل 15 أبريل بالبندقيةالت أختاروها سبيلاً لذلك – فتلك حقبةٌٌ بكل ظلمها و ظلاماتها قد مضي أمر الله فيها و قال الأشاوس ورفاق التغيير كلمتهم الفصل حولها بأن قرروا كتابة فصل نهايتها المأساوية في كتاب سودان النخب المركزية.فإن عاندوا سنن التغيير و نواميس التحول ظناً منهم أن عجلة الزمان و إرادة الشعب قد تعود إلي الوراء خانعة مستسلمة لهم, فإنهم بذلك لا يخدعون إلا أنفسهم ولا يغلقون أبواب الحقيقة التي تسير فوق الواقع إلا عن أعينهم التي (كمن يجحد ضؤ الشمس عن رمدِِ و يجحد طعم الماء عن سقمِِ) .
نقولها و بكل صدق إن هذه الحرب بكل ما صاحبها من كوارث و مآسي و مواجع وآلام وما تركته فينا جميعاً من جراح نازفة و دموعاً لا تجف وواقعاً مراً في القلوب كطعم العلقم – لكنها رغم ذلك مثلت فرصة مواتية لمن أراد أن يتعظ أو أراد أن يرى الحقيقة بأعين مفتوحة لا يحجبها تمارض العشى الليلي_ إنها فرصة لتكون ساحة للتأمل و سانحة للإعتبار يتحول بموجبه ما كان مأساةً و ألماً إلى إلى قوة في إطار تنوعنا الثّرْ و ما كان وجعاً و دموعاَ إلى إرادة تأسيس وسواعد بناء لوطن زاخر و زاهر و فاخر.فمن لم يتعلم من كوارث و مآسي و آلام هذه الحرب و إعتبارات دروسها المجانية المبذولة- سيظل عالقاً في أطلال حقبِِ غابرة قبرتها تحولات الواقع الماثلة الآن.