مقالات

دولة 56 في مهب الريح بقلم /مليح يعقوب حماد

مراديس نيوز

دولة 56 في مهب الريح

مليح يعقوب حماد

يعتبر الكيزان اسوأ نسخة من دولة المركز.ونراهم يتساقطون يوميا كاوراق التوت من تحت اقدام الاشاوس .فحربهم ضد قوات الدعم السريع مؤشر كبير علي انهيارهم، وبزوالهم  نكون قد اسدلنا الستار علي اخر حلقة من مسلسل دولة ٥٦. فلتذهب غير ماسوف عليها  بامتيازاتها التاريخية المتعارضة مع مصالح الشعب والمعيقة لتحوله المدني .فالوعي الثوري الذي انتظم الشارع ، وحده كفيل بان يجعلنا نقولها وبالفم المليان : باي باي دولة ٥٦، والتي تعتبر الثقافة والفنون والفكر والابداع من اكبر ضحاياها ومن اهم اركان الصراع في داخلها.فعندما استولي الكيزان علي السلطة في العام 1989م، قاموا بمحاربة الفنون، وسعوا بصورة او باخري لافراغ الاذاعة والتلفزيون من بعض محتوياتهما النادرة و المحفوظة في الاراشيف والمكتبات. كمحاولة يائسة منهم لمحو ذاكرة الامة وعذلها من تاريخها .لقد انتهج الاسلاموين سياسة القطيع كوسيلة للتبشير بمشروعهم الحضاري المزعوم .وظل اعلامهم المرئي والمسموع يطنطن في اذن الشعب بشكل يومي ومستمر باغاني الحماس و الجهاد، والدفاع الشعبي.فمع كثرة التكرار، حفظها الجمهور عن ظهر قلب.َحيث استبدلوا الاغاني العاطفية والوطنية الخالدة بالاناشيد الدينية المعادية لامريكا وروسيا وإسرائيل.لقد خدعوا الشعب باسم الدين و استغلوا عواطفه النبيلة أسوا استغلال. غييبوا كثيرا من وعيه.وشرخوا هوياته الوطنية والثقافية واللغوية والدينية. و صادروا حرياته الخاصة والعامة.واعتدوا علي حقوق النساء ومنعوهن من حرية اختيار الازياء .و غييبوا الصحافة والفنون والسينما والمسرح. وخلقوا فجوة كبيرة بين جيلي الشباب والرواد. لقد ناضل المبدعون الحقيقيون ضد شعاراتهم الكاذبة. علي عكس انصاق الفنانين الذين يؤدلجهم اعلام الانقاذ ، او  تاتي بهم الصدفة، فيتبخرون كرغوة الصابون، وينفض الناس من حولهم، مع انتهاء اسباب ظهورهم، و ركاكة فنهم ونشاز اصواتهم. فالهالة الاعلامية التي اوجدتهم ، اولي بها غيرهم .وقد استردت الثقافة والفنون بعضا من عافيتها عند بداية ظهور الشركات الفنية الخاصة ، كشركات الكاسيت و الانتاج الفني والاعلامي،والدعاية والاعلان وخلافه. ورفدت الساحة الفنية بالعديد من النجوم، وفي شتي مجالات الابداع  المرتبطة بالمسرح والتمثيل والغناء والتراث والشعر والدوبيت والنم  والرسم والتشكيل.وقد احدثت حراكا ثقافيا منقطع النظير،وخلقت تنافسا شريفا بين مختلف الانماط. كان بمقدور الشركات الصمود من اجل العبور بالثقافة والفنون الي بر الامان، ولكنها سرعان ما انهار مشروعها .بسبب تهاون الدولة في توفير الرقابة القانونية الكافية لحماية المنتوج.مما اسهم بدوره في اهدار حقوق الشركات و المبدعين، فبعد ظهور الامبثري. اعلنت اغلب الشركات الفنية افلاسها ثم  اغلقت ابوابها وخرجت  من السوق. فسائت بذلك احوال المبدعين وتدهورت  مستويات دخولهم وانخفضت كمية الايرادات التي كانت تتحصل عليها الدولة من الفنون.وكانت الشركات ولوقت قريب هي الدينمو المحرك للابداع، لما توفره من حقوق واجور للمبدعين وكثير من العاملين في الحقل الثقافي.ففي ظل وجودها، كانت مباني المصنفات تعج بالتفاعل و الحيوية والحركة والنشاط ومع غيابها فقدت المصنفات الادبية والفنية بريقها ولمعانها وخيم علي اسوارها كثير من البؤس و الحزن و الكآبة. وتم  اقتلاع شجرة الزهاجة من امام مبني الفنون الشعبية  تلك الواحة الوريفة ، والتي يستظل تحتها المثقفون، و يطرحون رؤاهم وافكارهم واشعارهم واغانيهم. لقد قام الشعراء بنقل منتدي حسن الزبير الي مركز شباب ام درمان (شيخ المراكز).ونلاحظ ان مراكز الشباب  عانت كثيرا من ظلم الكيزان. فعلي سبيل المثال وليس الحصر : عندما اشتدت المعارك في الجنوب، طلب المسئولين من أعضاء مركز شباب ام درمان اخلاءه لمصلحة المجاهدين وافراد الدفاع الشعبي.وتم اخطار العازفين بضرورة سحب الاتهم الموسيقية من المخزن ، بنية استخدامه لتخزين السلاح و الذخائر .ومن المعروف ان مراكز الشباب كانت تتبع لوزارة الشباب والرياضة،ولا تربطها اي صلة بوزارة الدفاع. وقد انشئها النميري، لتنمية مواهب الشباب، وتطوير مهاراتهم  في شتي مجالات الرياضة والفنون والفكر و الابداع. ومن المشاكل التي واجهت المبدعين في عهد المخلوع عمر البشير، حل لجنة اجازة النصوص والاصوات بالاذاعة القومية، مما تسبب في انحسار  تسجيلاتها الرسمية، فخسرت بذلك الاغنية السودانية لاعبا جوهريا ساهم كثيرا في نشرها و حفظها وتوثيقها وحمايتها من الشرخ والتشوية. ومن عيوب الاذاعة القومية انها كانت تبرم عقودها الفنية ،مع المبدعين لفترات طويلة تصل مدتها  لخمسين عام ، وتم تخفيضها لاحقا الي عشرين عام،وبمبالغ زهيدة، قد لاتكفي، من حوجة المبدع لشهر . وقد كانت الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، ولوقت قريب حريصة علي منح الحقوق الادبية والمادية لاصحابها ، لكن مع مرور الوقت اصبحت، كغيرها من القنوات،حيث باتت تتململ من ذكر كلمة حقوق، ثم انتقلت نفس العدوي للاعلام البديل.فاختلط الحابل بالنابل وازداد الطين بالبلل َ،واختلت موازين العرض والطلب في سوق الثقافة و الفنون.ونلاحظ ان  بعض اجهزة البث تتهرب من دفع الحقوق لاصحابها، بحجة عدم امتلاكها للاموال .وقد يضطر بعض، من المبدعين الموافقة علي بث ابداعهم مجانا وبدون مقابل مادي. علما بان الاغاني والمدايح والمسرحيات وخلافها، هي من تستقطب لها الجمهور ، و تجذب اليها شركات الدعاية والرعاية والاعلان. ولولا الثقافة والفنون والفكر والابداع لاغلقت تلك الاجهزة ابوابها. ويفترض بها ان تحفظ الحقوق  لاصحابها، فمن استنفع عليه ان ينفع. وقد استمر الواقع الثقافي الي هذا الحجم من التردي الي ان  ظهر . مجلس المهن الموسيقية والمسرحية، كمراقب للوسط الفني، وكضابط للهرج  والمرج الحاصل في الساحة .فاستبشر الناس خيرا بقدومه، لكونه قد الزم الدولة بضرورة الاعتراف بمهنة الفنون، ليتم تقنينها في البطاقة القومية وجوازات السفر.وبموجب الصلاحيات الممنوحة له، شرع المجلس في منح التراخيص والشهادات، لكل من استوفت عليه شروط مزاولة المهنة، من المسرحيين والفنانين والعازفين والملحنين والفرق والجماعات الشعبية والحديثة . ورغم مجهوداته العظيمة، الا ان حمار الشيخ وكعادته لايذال واقف في العقبة.حيث واجهتهم جملة من العقبات والمتاريس، لم يتمكنوا  من حلها ومن ضمنها:الميزانية والمقر والشرطة والمحاكم والقوانين والعربات والمرتبات والتوظيف والتأهيل والتدريب والخ. فحكومة الانقاذ  اجازت قانون المهن الموسيقية والمسرحية، و لم توفر الآليات الكافية لتنفيذه. كأنها فعلت ذلك من باب الترضية (عدي من وشك). ويفترض عليها ان تتعامل بكل وضوح وشفافية مع موظفي مجلس المهن الموسيقية والمسرحية  لايجاد مخارج آمنة تسهم في تجويد العمل. يعتبر السودان من ضمن الدول المصادقة علي قوانين الملكية والفكرية، والغريب في الامر نلاحظ انه وبرغم تنوع ثقافاته وتعدد اقاليمه واتساع رقعته الجغرافية ، الا ان  مقومات الابداع تتوافر في العاصمة القومية بعيدا عن مراكز الانتاج الثقافي الحقيقية المنتشرة في بقية المدن والولايات. حيث يمتلك السودان محكمة واحدة للملكية الفكرية في الخرطوم، ومجلس واحد للمصنفات الادبية والفنية في ام درمان، وكلية واحدة  للموسيقي والدراما في السجانة وكلية واحدة  للفنون الجميلة في الخرطوم. يتهافت اليهن المبدعون من كل ولايات السودان، لاغراض الدراسة والتعليم و التقاضي والتصنيف وحفظ المؤلفات واجازة النصوص والاصوات  وتسجيل براعات الاقتراع . وكان من الاحري للدولة ، ان تنشئ محالم للملكية الفكرية، ومجالس للمصنفات الادبية والفنية، وكليات للموسيقي والدراما والفنون الجميلة في كل اقليم، تخفيفا لاعباء السفر والاقامة والتي يصرفها المبدعين القادمين من الولايات للخرطوم. وهنالك نقطة مهمة تجدر الاشارة اليها، وهي ان غالبية المبدعين الذين يلجأون الي محكمة الملكية الفكرية، لايملكون رسومها،وقد تتاخر اجرائاتهم حال قاموا بتقديم طلب مقاضاة بدون رسَوم،ولذلك نلتمس من محكمة الملكية الفكرية الموقرة ان تعفيهم كليا من سداد الرسوم، تقديرا لظروفهم الاقتصادية الصعبة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى