الشراكة السياسية في بناء الأوطان…(إعلان أديس أبابا نموذجاً). بقلم/ د. جودات الشريف حامد الخبير بالمركز السوداني للدراسات الإستراتيجية و الفيدرالية.
مراديس نيوز
الشراكة السياسية في بناء الأوطان…(إعلان أديس أبابا نموذجاً).
بقلم/ د. جودات الشريف حامد
الخبير بالمركز السوداني للدراسات الإستراتيجية و الفيدرالية.
أثبتت تجارب الممارسة السياسية في السودان ( ١٩٥٦-٢٠٢٣م )،والتي يمثل بعضها حكومات مدنية قامت على نهج نظام ويسمنستر البريطاني والبعض الآخر جاء كنتيجة لانقلابات عسكرية حدثت في السودان ،جميع هذه الحكومات المتعاقبة، لا سيما العسكرية منها قد برهنت شواهدها التاريخية أنها كانت وما زالت تمثل باعثاً محورياً و مسوغاً أساسياً لإشعال الحروب الأهلية السودانية المستدامة، الأمر الذي كانت كلفته البشرية عالية جداً،حيث سقط جراء هذه الحروب الأهلية الملايين من القتلى و الجرحى وأعداد أخرى مضاعفة من والمهجرين والنازحين السودانيبن في الداخل و الخارج، ولسؤ حظنا كسودانيين ما زلنا نعاني من معايشة ديمومة وصيرورة هذه الحروب اللعينة، التي أسهمت الأحزاب السياسية والنخب المركزية بنرجسيتها في تأجيج نيرانها، حيث ان آخرها كان حرب ١٥ ابريل التي نعايش تمظهراتها المحزنة وتداعياتها الكارثية على الوطن و المواطن، والتي كان فلول الحركة الإسلامية سبباً أساسياً وفاعلاً حقيقياً أوحداً في إشعال فتيلها باستخدامهم للمؤسسة العسكرية التي جَيِّروها أيدلوجياً لخدمة مصالحهم الحزبية الذاتية الضيقة.
إذن الأزمة السياسية في السودان نشأت عن فاعلين أساسيين هما النخب المركزية المدنية و النخب العسكرية ذات الثقافة المركزية، حيث أن تجارب الحكم المدني الديمقراطي على قِصرْ آمادها كانت موبؤة بالائتلافات ( الحزبية/البرلمانية) المتباينة وفي الغالب كانت ائتلافات اضطرارية لعدم وجود حزب واحد ذو ثقل جماهيري قادر على تأمين الأغلبية الانتخابية المريحة التي تمكنه منفرداً من تشكيل الوزارة. فالائتلافات السياسية السودانية عبر تاريخها ليست ناتجة عن قناعة راسخة ومؤقنة بتشاركية العمل السياسي،أو نابعة عن ثقافة الشراكات السياسية البناءة، حيث كان من سمات الحكومات الائتلافية السودانية كثرة المناكفات و حياكة المؤامرات و(الحفر) السياسي بين شركاء الائتلاف، فتضطرب تبعاً لذلك الأحوال ويكثر افتعال الأزمات، فتجد النخب العسكرية من المدنيين السياسيين من يبرر ويزين لهم وأد التجربة المدنية المتشاكسة
و هكذا ظللنا بين فترات حكم مدني قادته متشاكسون ومتآمرون في غالب الأحوال على تجاربهم الديمقراطية و ذلك بإعطاءهم المبررات و الدوافع للنخب العسكرية وتشجيعهم على الاستيلاء علي السلطة انقلاباً.
إن واقع فشل تجارب الممارسة السياسية في السودان على مدار ٦٨ عاماً جعلنا نعيد البصر كرتين بحثاً عن مداخل تأسيسية ومناهج تفكير جديد لإعادة صياغة العقل السياسي السوداني فيما يتعلق بماهيات و كيفيات بناء ورصف الأرضية التشاركية لتحديد خرائط البناء الوطني بأبعادها الجامعة، وفقاً لمقايسات منضبطة ومقاربات محكمة متوافقٌ عليها من السواد الأعظم من أهل السودان، بداء بالدستور و مبادئه فوق الدستورية، ونظام الحكم و شكله، الهوية السودانية، ومقومات الحكم الرشيد.. وغيرها ، بالإضافة إلى ضروريات اجرائية أولية بادئة تجسر الهُوة وتضيّق بون الاختلافات السياسية والأيدلوجية و الإثنية بين الفرقاء في الوطن ، وهذا أمر يقتضي تهيئة مزاجية عامة وتوافقاً سياسياً أشمل على تنزيل وتمكين ثقافة الشراكات السياسية في بناء الوطن باعتبار أن هذه الشراكات السياسية في قضايا الوطن تمثل محصلة ناضجة تتكامل فيها جهود مشتركات الاهتمام بالشأن العام وتوافق العقل الجمعي تفكيراً، و تتضافر فيها محددات أخري ذات أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وأخلاقية تهدف لاستيعاب التصور الكلى لتنوع المجتمع ونظامه السياسي المبنى على جماعية العقل المفكر فيه بالإضافة إلى تلك المحددات المشار إليها.
واستجابة للحاجة إلى أنساق مفاهيمية سياسية جامعة تتصل بمقتضيات بناء الدولة السودانية الجديدة بإمكاننا القول الواثق أن ما جاء في إعلان أديس أبابا الذي وُقع في ٢ يناير ٢٠٢٤م بين قوات الدعم السريع وتنسيقية القوي الديمقراطية المدنية (تقدم) يمثل الخلاصات التراكمية لتجاربنا السياسية المتواضعة، والتي كانت رافعة سلوك الممارسات المائزة فيها يتمثل في أساليب الإقصاء والإقصاء المضاد، و بهذا التوقيع الذي يمثل أول إعلان مبادئ سياسي سوداني يتحدث مضمونه بتفصيل واضح عن ضرورة التأسيس والبناءات الجديدة للدولة السودانية، من خلال عزم مشترك مشاراً إليه بوضوح كما ورد في الفقرة الرابعة من ديباجة الإعلان ( قد عقدنا العزم)، أن وثيقة الإعلان هذه تمثل مرحلة جديدة من الشراكة السياسية في تأسيس الوطن ، لذلك فإن إعلان الشراكة السياسية الموقع في أديس أبابا قد حمل في طيات بنوده الموجهات والأجندات العامة التي استوعبت في المجمل العام رؤية الدعم السريع للحل السياسى الشامل بكامل نقاطها العشرة، كذلك مشروع تقدم ورؤيتها السياسية تجاه أزمات السودان، نختم بالتأكيد على أن إعلان أديس أبابا يمثل بداية الطريق ومدخلاً للخلاص الجذري والانعتاق الكلى من كافة التوترات والاحتقانات المجتمعية والازمات السياسية والحروبات الأهلية والظلامات والمظالم التاريخية الناجمة عن غياب ثقافة الشراكة السياسية في تحمل مسئوليات البناء الوطني والاتفاق على عقد اجتماعي سياسي ينظم الوشائج الاجتماعية والعلاقات السياسية ويبلور حقوق وواجبات الناس في الدولة.
إن إعلان أديس أبابا يمثل بادرة تستحق الرعاية من كل سوداني، كما أنه بحاجة إلى بذل العديد من الجهود والإمكانات من موقعيه و مؤيديهم و التبشير به، كما يحتاج إلى ثقافة سياسية جديدة مبنية على الحوار بدلاً عن الحلول القائمة علي العنف السياسي وصولاً الي إجماع وطني مجتمعي يجدد تأسيس الحياة السياسية ويوسع فضاء المشاركة الجماعية و يُجذّر ثقافة الشراكة السياسية وصولاًَ لتأسيس وبناء سودان مدني ديمقراطي يسع الجميع بلا استثناء إلا أن تكون سوداني.
… نواصل…