د.أسامة محمد جمعة داؤد
ان وقوف الفنان مع السلام ونبذه للحرب هو الموقف الطبيعي الذي يجب أن يمليه عليه ضميرة أما الدعوة للحرب وإذكاء روح الكراهية كما تفعل الفنانة ندى القلعة وميادة قمر الدين وغيرهما فهو أمرُ مخالف للضمير الانساني عموماً وضمير الشاعر والمقلد الفنان على وجه الخصوص.
بعيداً عن مغارز الماضي فقد اختار الشاعر الكبير أمجد حمزة الفنانة عائشة الجبل لتؤدي قصيدته(الحرب الضرب بيوت تتخرب) التي ندد فيها بالحرب وما خلفته من خراب للبنية التحتية وتشريد للمواطنين وحرق للمنازل وسرقة للأموال، وتساءل فيها عن من المستفيد من هذا الحرب ثم استدرك أن هذه الحرب أشعلها طرف آخر أو كما قال (الفتنا في بعضنا دا ما زولنا هو الضدنا)، ثم أشار إلى الدوافع السياسية من وراء هذه الحرب مندداً بها في قوله (السياسة من أساسة الأذية والخباثة). والكلمات في مجملها تدعو للسلام وتبصر بعواقب الحرب.
وأعتقد أن الشاعر أمجد حمزة لم يختار الفنانة عائشة الجبل لتؤدي هذه الأغنية لشعبيتها الكبيرة ولا لمهارتها في مجال الفن الغنائي ولكنه اختارها لطموحها ولشجاعتها وجرأتها وثقتها في نفسها في وقت يصعب أن تجد فيه من يجاهر بقول الحق وكلنا نعرف عبارتها المشهورة التي ترددها مرار وتكراراً (جبلية لأي زول)، وأغنيتها المشهورة (دعامة شبه القمر).
فعائشة الجبل وبعيدا عن التقييم الفني لتجربتها فهي وعلى نحو مانعرف عنها تستطيع أن تعبر عن ما بداخلها في كل الظروف، فقد رفضت الغناء في اعتصام القصر عندما عرض عليها البلابسة الغناء ، وقالت أنها لا تريد أن تقحم نفسها في أجندة سياسية ولكن ذلك لا يمنعها من الوقوف مع المواطن وخياراته ضد الظلم، وشاركت في مسلسل يهدف إلى معالجة القبلية والعنصرية المتفشية في المجتمع السوداني من انتاج قناة سودانية24
وتعرضت الفنانة الجبلية لمغارز كثيرة من قبل بلابسة الفن خلال مشوارها الفني الطويل لا سيما عندما أرادت الخروج من غناء القونات إلى الفن الراقي ، فقد تم معاكستها في الحصول على عضوية اتحاد الفنانيين، وانسحب الفنان عصام محمد نور عن المشاركة في برنامج يلا نغني بعد حضوره للاستديو عندما علم بأنها جزءاً من البرنامج فلم تتمالك نفسها وأجهشت بالبكاء أمام زملائها ، وعندما تواصلت مع الشاعر الكبير اسحق الحلنقي ليساعدها في الخروج من عباءة الاغنيات التي اشتهرت بها تم انتقاد الشاعر ولومه في التعامل معها فقال الحلنقي: لقد تواصلت معي لترتقي بفنها ” فكان لابد أن أوقد لها شمعة تخرجها من ذلك الظلام ،علينا نحن الشعراء أن نقدم الجميل” وقد خرجت الجبلية من كل هذه الرشقات واستطاعت أن تنال عضوية اتحاد الفنانيين وأن تحافظ على جمهورها.
لكن أكبر هجمة شرسة تعرضت لها الجبلية كانت بسبب أغنية الحرب الضرب التي أدتها في زمن كان البلابسة يهاجمون فية كل دعاة السلام ، فقد تم التنمر عليها وتشويه سمعتها استناداً على عبارات من صنع الشاعر يشكر فيها مصر وكرمها ويرد الجميل للسيسي الذي فتح حدود مصر للسودانيين النازحين الهاربين من جحيم الحرب .
وتقلل الأغنية من شأن الجيش السوداني الذي أشرك نفسه في الحرب وعجز عن حماية المواطن مما جعله مشردا في دول الجوار لكن معظم النقد المقدم في الاغنية يدور حول الايقاع الراقص ويعتقد البعض أنه لا يتناسب مع أغاني الحزن.
وقد تصدى الشاعر أمجد حمزة للنقد الفني للاغنية فيما يتعلق بالايقاع الراقص فقال انه جعلها بإيقاع راقص وهذا ليس غريبا لأن الطير يرقص مذبوحاً من الألم ، وتصدى للنقد الموضوعي بقوله ” بعد عامين من الحرب واستمرارها ستفهمون معنى هذه الأغنية “، ويبدو أنه كان على حق فقد رقص جميع السودانيين الآن على ايقاع الحرب وآلامها المعنوية .
وأخيراً لقد وقفت عائشة الجبل الموقف الطبيعي الذي يجب أن يقفه اهل الفن من الحرب، ويحسب لها هذا الموقف الشريف كأول مغنية تجاهر بصوتها الرافض للحرب، والداعي للسلام ، وكل ما تعرضت له بسبب موقفها من سخرية همز ولمز ونبز يهون في سبيل عودة السلام والامن والاستقرار والمودة والوئام.