في أغسطس من العام 1967، اجتمعت القيادات العربية في الخرطوم لتعلن اللاءات الثلاث: لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع اسرائيل بعد هزيمة 67 النكراء.
بعد 56 عاماً، ها هو وزير الخارجية الاسرائيلي إيلي كوهين يصل الخرطوم وفي استقباله رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان،واستعداداً لتوقيع الاتفاق الابراهيمي وتطبيع العلاقة بين البلدين.
زيارة كوهين تاريخية بشكلها ومضمونها، وهي تعكس التبدلات التكتونية التي عصفت بالسودان وصولاً الى القرار بتطبيع العلاقة معاسرائيل.
فبدل نهج البشير الذي جعل من السودان بوابة أفريقية لتنظيمات معادية للغرب وإسرائيل،يرى البرهان فرصة بتعميق التعاون الأمني معاسرائيل وطرق بوابة اقتصادية تنفتح على الأوروبيين والأميركيين بدل استضافة من يستهدفهم.
فمن زعيم القاعدة السابق أسامة بن لادن، إلى المساعدة في تسليح وتدريب وتمويل “حماس” و”حزب الله” ومغازلة الإخوان المسلمين، ودور المفكر الإسلامي حسن الترابي في إرشاد قيادات من حماس، أضاع السودان أجيالا في مستنقع التطرف . هذا النهج كلف الخرطوم عقودا من العزلة وجاء على حساب التنمية الاقتصادية وبناء الدولة المدنية في السودان.
ومن المعروف دور المفكر الاسلامي حسن الترابي في ارشاد قيادات من حماس، وعمل البشير على امداد التنظيم بسلاح من إيران وليبيا (بعد سقوط عمر القذافي) وأحيانا من سوريا. هذا جعل الخرطوم هدفا سهلا لضربات اسرائيلية في 2009 و2011 و2012.
السودان كان وافق بالمبدأ على مواكبة الامارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب في ٢٠٢١ والتوصل الى الافاق الابراهيمي، فالسودان لميوقع بعد. وهو يحمل هذه الورقة لاستمالة واشنطن التي تريد استضافة حفل التوقيع وليكمل جوزيف بايدن ما بدأه دونالد ترامب بتوسيع مظلة السلام بين العرب وإسرائيل.
واشنطن وبعد رفعها السودان عن لائحة الارهاب وسكوتها الضمني عن انقلاب البرهان هي أكثر من مستعدة لإضفاء شرعية على الطبقة الحاكمة الجديدة وفي حال انفتاحها على الغرب وضمانها للمصالح الامنية الاساسية لواشنطن في تلك المنطقة.
أما اسرائيل، فزيارة كوهين هي مكسب كبير لبنيامين نتانياهو وفي نفس اليوم الذي افتتحت فيه دولة افريقية أخرى هي تشاد سفارتها في تل أبيب. نتانياهو يعطي أولوية اليوم للتطبيع مع الدول العربية ولضرب عصفورين بحجر: إفادة اسرائيل وعزل الفلسطينيين.
نتانياهو ينجح في استراتيجية المدى القصير في تكبيل السلطة الفلسطينية، فتح قنوات مع الخليج فوق وتحت الطاولة وفي نفس الوقت استهداف منشآت دفاعية في إيران.
إنما في المدى الأبعد ومن دون سلام بين إسرائيل والفلسطينيين، لا استقرار دائم لاسرائيل ولا علاقات طبيعية مع دول المنطقة. فلا دولة عربية اليوم تريد مصافحة نتانياهو وهو يستعدي الفلسطينيين ويتوسع في الضفة الغربية ويضم القدس. من هنا زيارة نتانياهو إلى الإمارات العربية المتحدة تم تأجيلها مراراً وحتى الرئيس الأميركي جوزيف بايدن لا يعتزم لقاء قريبا بزعيم الليكود في واشنطن.
بغض النظر فإن قرار السودان بمصالحة اسرائيل ومصافحة كوهين هو هزة تكتونية وتحول في بوصلة الخرطوم نحو المكاسب الاقتصادية والأمنية بدلاً من ركوب قطار التنظيمات المسلحة ولاءات من زمن آخر.