مقالات

الباشمهندس عمر زمرواي من أكل القلوق في قرية كرمة شمال السودان إلى كرسي الوزارة في أمريكا : بقلم حسن زمراوي محمد

مراديس نيوز

من منا كان يحلم بأن ذلك الطفل اليافع الذي كان ما أن يعود من مدرسة أبي تعريفة لبيته بعد انتهاء اليوم الدراسي، حتى يرمي خرتايته(1) ويجري هو وصحبه إلى جنائن النخيل الممتدة على طول ضفاف النيل بمدينة كرمة التاريخية بشمال السودان، كان يسرع الخطى لتلك الجنائن للبحث عن ما تسقطه رياح الشمالية من القلوق(2)؛ فمن منا كان يحلم بأن ذلك الطفل سيصبح في يوم من الأيام وزيرا بأقوى دولة في العالم.

نعم يا سادة؛ لقد أصبح ذلك الطفل النوبي اليافع بعد قرابة خمسون عاما من أيامه تلك التي كان “يلقط” فيها “القلوق” الذي كانت تسقطه رياح الشمالية من أشجار النخيل الباسقات، وما كان بإمكانه تسلق النخيل بنفسه لصغر سنه آنذاك، ولكنه كبر وكبرت معه أحلامه إلى أن تسلق المجد وأصبح وزير النقل الثالث عشر لولاية إلينوي الأمريكية، وهو بذلك أصبح أول شخص من السودان يشغل منصب وزير بأقوى دولة بالعالم، وأول شخص من ذوي البشرة السوداء في تاريخ الولاية يشغل هذا المنصب ويرتقي إلى القمة ليكون أكبر مسؤول للنقل في ولاية بها واحدة من أكبر شبكات البنية التحتية وأكثرها تنوعًا وتعقيدًا، وأصبح بذلك يشرف على ميزانية تشغيل سنوية تبلغ حوالي 3.8 مليار دولار، وميزانية رأسمالية تتجاوز 27 مليار دولار، ويدير حوالي 5000 موظف بالوزارة.

لقد كان الصعود مثيرًا للإعجاب، حيث أنها كانت رحلة طويلة للفتى السوداني تبعد ما يقرب من سبعة آلاف ميل في الواقع من بلد الخير والعزة مكاني. رحلة اجتهاد ومثابرة بدأت قبل خمسون عاما بحمل الخرتاية من وإلى مدرسة أبي تعريفة الابتدائية وانتهت بالجلوس على كرسي الوزارة، حتى صار اسمه مألوفا بولاية إلينوي كوزير وضع بصماته منذ أن كان مهندسا مقيما وأبدع في مشاريع عديدة كان يدير تنفيذها خاصة مشروع الطريق السريع الولائي رقم ٧٤ (I-74) الذي يشق مدينة بيوريا بوسط ولاية إلينوي من الشرق للغرب ويربط شرق أمريكا بغربها، ولقد كان تنفيذ هذا المشروع والذي كانت قيمته نصف مليار دولار الانطلاقة الحقيقية لوزيرنا للوصول للقمة. وفي معرض الحديث عن هذا المشروع فلا ننسى دور ابن مدينة ود مدني البار المهندس القدير عماد البشرى في ذاك المشروع العملاق، فهو أيضا كان جزءا لا يتجزأ من ذاك المشروع التاريخي الذي حلت به المشكلة المرورية بوسط مدينة بيوريا وذلك بتنفيذ أنفاق وكباري طائرة. أما أخونا ابن بورتسودان البار الماحي باكاش فلي معه حديث آخر في مقال سيرى النور قريبا – إن شاء الله – بعنوان: ما بيني وبين الماحي باكاش.

وما كان لوالد مثل الحاج زمراوي محمد عثمان أن يرضى من ابنه بمرتبة تكون أقل من وزير؛ فهو الذي كافح وناضل من أجل توفير لقمة العيش وتوفير الجو المناسب لأبنائه حتى ينهلوا من معين العلم الذي حرم نفسه منه طواعية من أجل خدمة ضيوف والده الخليفة محمد عثمان فقير ومن أجل مساعدته في توسيع أعماله التجارية. وكأني أرى ذلك الطفل اليافع جالس تحت شجرة النيمة التي بحوش منزلهم بفقير مار بكرمة الجمال، وكأني أراه يستذكر دروسه بكل اجتهاد ومثابرة وهو يتخيل منظر والده زمراوي ينزل من دابته بعد أن قدم من رحلاته التجارية من أسواق: البرقيق، كرمة النزل، أو أسواق أرقو و دنقلا البعيدتين، فيزيد ذلك من حماس ذلك الفتى النوبي فيدفعه ذلك للاجتهاد أكثر وأكثر.

نشأ سعادة الوزير بمدينة كرمة البلد حاضرة الولاية الشمالية وعاصمة المملكة النوبية القديمة حتى سن الرابعة عشر حيث انتقلت أسرته للخرطوم عاصمة السودان من أجل الحصول على تعليم أفضل، وهنالك انتظم في صفوف الدراسة بالصف الثالث بمدرسة أبي كدوك المتوسطة التي خرجت عمالقة في مختلف التخصصات، فيتخرج منها في عام ١٩٨٠م ضمن أول دفعة طبقت فيها نظام الامتحانات الشهرية والتي كانت العمود الفقري لتميز المدرسة وخريجيها عبر السنين. ثم يواصل نفس الاجتهاد والمثابرة بمدرسة المؤتمر الثانوية بأمدرمان ويتخرج منها في عام ١٩٨٣م بتفوق؛ ثم يفكر في دراسة الطب ببلغاريا حتى يتدخل والده ويقنعه بالدراسة بأمريكا؛ ثم سرعان ما كان ذلك الشاب اليافع على متن طائرة ال TWA المتجهة لنيويورك، ثم نيو أورلينز، ثم باتون روج التي بدأ فيها بالانتظام داخل فصول معهد اللغة بجامعة ولاية لويزيانا تحت إشراف الأساتذة الذين أبدوا اهتماما خاصا بذلك “الشاب الخجول”، وبعد شهور قليلة بمعهد اللغة زاد فيها رصيده المعرفي باللغة الإنجليزية والتي كان قد تعلم قدرا لا بأس بها أيام متابعته لأفلام الكاو بويز في أيام سنواته بالخرطوم، بعد ذلك انتظم في برنامج الهندسة المدنية المتميز بجامعة السوثرن والتي تعتبر من جامعات السود التاريخية بأمريكا.

بعد التخرج بتفوق اعتقد ذلك الشاب السوداني الذي ملأ عقله الذي من تحت خنفسه الكبير آنذاك بقدر كبير من المعلومات عن تخصص الهندسة المدنية، اعتقد أنه قد يكون متجها للسودان، إلا أن أحد خريجات جامعة السوثرن نفسها كانت قد عادت للجامعة للبحث عن خريجين جدد للعمل بوزارة النقل لولاية إلينوي حيث تعمل هي. فوضعت خريطة ولاية إلينوي أمام ذلك الخريج الجديد، وأشارت له على منطقة شيكاغو بشمال الولاية، ثم مدينة بيوريا بوسط الولاية.

فقال ذلك الخريج الجديد: هذا اسم مضحك!!! أين بيوريا هذه؟!!

فردت المهندسة: هذه هي المدينة التي يوجد بها رئاسة “كاتربيلر”.

فرد خريجنا الجديد: أريد أن أذهب لبيوريا بسبب كاتربيلر.

وفي مقر وزارة النقل لولاية إلينوي – المنطقة الرابعة – التقى بمدير الوزارة لفرع المنطقة الرابعة السيد دييل رايسنجر والذي أصبح فيما بعد سانيتور بالكونجرس الأمريكي؛ وفي ذلك اللقاء سأله دييل ريسنجر: إذا تم تعيينك، فأين ترى نفسك في خمس سنوات من الآن؟

فرد عليه ذلك الشاب الطموح قائلا: بعد خمس سنوات من الآن، إذا لم أكن جالسا على كرسيك هذا، فسأكون في مكان قريب من حوله، فبدأ مستر دييل يضحك وشابنا الطموح يضحك وأصبحوا أصدقاء إلى يومنا هذا.

كانت تلك المقابلة قبل ٣٤ عامًا، وبعدها أصبح يرتقي في الرتب من التخطيط إلى التصميم إلى التشييد في الموقع، حيث كان يعمل في مشاريع الطرق والجسور الرئيسية العديدة، وكل ذلك في الوقت الذي يجد فيه بطريقة ما الوقت للحصول على درجة الماجستير في جامعة برادلي والتي تحصل عليها في عام ١٩٩٥م.

وفي ١ يونيو ٢٠٢١م تم التصويت بالإجماع من قبل أعضاء كونجرس ولاية إلينوي لكي يصبح ذلك المهندس السوداني وزيرا للنقل بعد أن شغل منصب وزير للنقل بالإنابة منذ فبراير عام ٢٠١٩م، حيث تولى المسؤولية عن واحدة من أكبر شبكات النقل في أمريكا والتي تتكون من ٣٠٠،٠٠٠ ميل من الطرق والجسور، وحوالي ٨٠ مطاراً بما في ذلك واحد من أكثر أنظمة النقل العام ازدحاماً في العالم في مطار أوهير بمدينة شيكاغو، وأنظمة النقل الجماعي الحضرية الصاخبة، ونظام السكك الحديدية الذي يساهم بنسبة ٢٥ في المائة من شحن البلاد القادم عبر ولاية إلينوي، والبنية التحتية للممرات المائية.

كانت هذه رحلة سعادة الوزير عمر زمراوي محمد عثمان من زمن أكل القلوق إلى كرسي الوزارة؛ رحلة مليئة بالمثابرة والاجتهاد والتعب ولكنها آتت أكلها، وعندما سألنا سعادة الوزير عن سر هذا النجاح:

أجاب قائلا: الفضل للمولى عز وجل دائما وأبدا ثم على رأس من ساندوني كانت أمي الغالية الصبورة فاطمة عمراب رحمها الله والتي كانت دائما ما تشجعني وتهئ لي الجو المناسب لاستذكار دروسي؛ ووالدي الذي كان دائما يقف بجانبي وبقية أخواني وأخواتي، ودييل ريسينجر؛ وراي لاحوود وزير النقل الفيدرالي السابق في حكومة باراك أوباما، وجوزيف كرو الذي كان رئيساً لي بالمنطقة الرابعة لوزارة النقل.

ومن ما قيل في حق سعادة الوزير من قبل رؤسائه ما قاله وزير النقل الفيدرالي راي لاحود فيه حيث قال:

“الحقيقة أن الطريق الفيدرالي السريع رقم ٧٤ هي واحدة من أكثر الطرق أمانًا في البلاد، ولم تكن كذلك من قبل قدوم سعادة الوزير عمر للوزارة، فالواضح أنه يعرف ما يلزم لإنجاز الأمور”.

وكذلك قال لحود: الذي يتذكر قدوم سعادة الوزير عمر إلى مكتبه بالكونجرس للاستفسار عن كيف يصبح مواطناً أمريكياً: “الشيء المثير للاهتمام في عمر، إنه مثال للحلم الأمريكي؛ لقد شق طريقه بعزيمة وإصرار ومن الواضح أن حاكم ولاية إلينوي رأى مواهب حقيقية في هذا الرجل”.

وهكذا هم نوابغ بلادي الذين يبدعون خارج السودان عندما يجدون الجو الملائم للإبداع، وكما يقول المثل الأمريكي:

“قد تجد الموهوبين في كل مكان في العالم، ولكن ليس كل موهوب قد يجد الفرصة لتحقيق أحلامه”

‏Talent is universal, opportunity is not

فيا ترى: هل الكم الكبير من أبناء السودان لم نرى إبداعاتهم على أرض الواقع: لأنهم لم يجدوا البيئة الملائمة للإبداع بسوداننا الحبيب، أو لأنهم لم يجدوا الفرصة للقدوم لبلاد العم سام التي تقيم كل مبدع وتوفر له جميع سبل الراحة حتى يمت فارغا؟.

كولومبوس – ولاية أوهايو

الولايات المتحدة الأمريكية

الجمعة ٤ نوفمبر ٢٠٢٢م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى